المجاملة والإطراء والثناء كلمات حلوة، فلماذا يخاف الإنسان من تقديم مثل هذه الكلمات إلى من يستحقها ؟ ... هل تكلفه كثيرا....؟ هل يخسر ماديا أو معنويا ...؟!
كان أحد الاساتذة يقلب دفاتر الطلبة ليصحح فروضهم البيتية ، فتوقف فجأة والتفت الى زملائه معلقا : انظروا الى هذا الطالب المسكين ! يصحح لنفسه بقلم احمر ويشكر نفسه ! اسمعوا ما يقول على لسان المدرس ! أشكرك على تنظيمك .. مرتّب وممتاز ..!) .
يريد الاستاذ بكلمة مسكين أن يستدر العطف ، ويستجدي الشكر والأطراء استجداء .. حقا أن الطالب المسكين لأنه وقع في يد مدرس شحيح يبخل عليه بكلمة الاستحسان والتقدير ...
إن الارقام 80 ، 90 ، 100 ، أرقام جامدة ، لكن الحياة دبت فيها حين أصبحت تعني درجات ، بسبب إرتباطها بمعنى الإستحسان والتقدير ، فلئن كانت الارقام الجامدة لها هذا السحر في النفوس، فلا بد أن تكون الكلمات اللغوية أفصح تعبيرا واعمق تاثيرا ..
ما الذي نخسره حين نردد كلمة المدح والأطراء؟ بعضهم يقول عنها مبالغة وما الذي يجعل المدرس يكتب على دفتر الطالب : لوحظ ... حسن خطك ... حاول ان تكتب أحسن من هذا ..؟ او يكتفي بالتوقيع والتاريخ ؟ أو غير ذلك من كلمات تدل على لؤم و أوامر جافّة ، أو لا تدلّ على شئ مطلقا؟ فأن كان ذلك طلبا للسهولة ، فهذه كلمات أطول وأصعب في الكتابة من (جيد.. حسن ... شكرا ... تقدمت ... ممتاز ... مرتب ... إلخ ) .
كان عميد جامعة هارفرد رسل بريكز يقوم بتدريس الإنشاء والتعبير الى جانب عمله الأداري ، وكان يصحح للطلبة على طريقة البحث عن الصواب وإظهار الجيد .. ( فإذا لم يجد في الموضوع المكتوب غير عبارة حسنة واحدة نوّه بها ...) .
الكلمة الطيبة خالدة
يوصي الاستاذ فرنون هاورد أن نتمرن على إستعمال الألفاظ الطيبة والكلمات المريحة ، فإن عدم تمرننا على إستعمال الكلمة الطيبة قد يكون السبب في تاخرنا بالمدح ..أو لأن البعض منّا يظن أن الكلمة الطيبة – حين يكثر إستعمالها – يذهب سحرها ويضعف أثرها .. وهذا هو المنطق المقبول في الظاهر ، وهذا غلط في الأساس والجوهر .. فإن المعاني الطيبة كطاقة الشمس لا تبلى بمرور الزمن والإستعمال ، فهي أبدا ودائما تتفجر عن دفئ جديد ينبع عن ذاتها وكيانها ... ولكن الذي يوهم بأنها تبلى هو الأسلوب الذي نقدمها به ..
لقد كان سر نجاح أندرو كارنيجي إمتداحه لمساعديه وشركائه ، في السر ، وعلى مسمع من الناس ، وقد أراد يوما ألا يحرم من إمتداحهم بعد موته ، فهيأ اللوحة التي ستوضع على قبره وكتب عليها : (هنا يرقد شخص كان يعرف كيف يحيط نفسه برجال أفهم منه ..) .
أما (شواب) فكان يحصل على أكثر من ربع مليون جنيه سنويا مقابل معرفته إثارة الحماسة لدى العاملين معه من طريق الأستحسان والأطراء .. وهو القائل : ( من خلال جميع إتصالاتي بالناس ، طيلة حياتي ، لم أجد رجلا – مهما كان عظيما وذا مكانة – لم يحسن عمله ويبذل جهدا أكثر في جو الأستحسان والاطراء ، مما يفعل تحت وطأة النقد ..) .
الإطراء والأستحسان ، هذا ما كان (شواب) يعمله ، ولكن ماذا يعمل الإنسان العادي ؟ إنه يفعل العكس .. يثور عند أقل غلطة ، ويسكت عن الصحيح ...
كتب احد الأساتذة على غلاف دفتر للأملاء لأحد طلبة السنة الثالثة الإبتدائية : بورك فيك أيها التلميذ المجتهد .. ولم يعرف آنذاك معنى بورك ، ولكن كلمة المجتهد جعلته يحتفظ بالدفتر منذ سنة 1932 حتى اليوم .. لقد كتب على دفاتر هذا التلميذ كثير من المدرسين ، يصححون ويلومون ، يأمرون وينهون ، ولكن اثر كلماتهم لم يبق اكثر من أيام ولم يعتز بتلك الكلمات ذلك الأعتزاز .. فالكلمة الطيبة لا تنسى مهما تعاقبت السنون .
إننا في مجتمعنا النامي أحوج ما نكون الى كلمة الثناء والتشجيع وقول مشاعرنا الصادقة .. فلقد تكالبت على هذا المجتمع أسباب تاريخية قاهرة افقدته كثيرا من الثقة بالنفس أفرادا وجماعات ، كما تحدثنا كتب التاريخ .. فنحن بحاجة الى كلمة الطراء أكثر من حاجتنا الى كلمة النقد واللوم .
النقد الهدّام
الغريب أننا نهرب من المدح لأن بعض المداحين يكذبون ، ونقبل على النقد لأن بعض النقّاد لا يقدحون فقط ولكنهم يذكرون بعض المحاسن مع الكثير من المساوئ ويسمون ذلك نقدا بناءا ...! فأي بناء هذا الذي تتخلله مادة متفتتة أو ملح ذوّاب ؟!.
الظاهر أن النقد – مهما كان بنّاء – يهدم من حيث يحاول أن يبني .. والأي لإنما يفشل في تعليم أولاده لأنه ينتقد أعمالهم ويبيّن لهم المساوئ ، بدلأن يريهم المحاسن ويكبر فيهم مواطن الخير .. والمدرس إنما يوسع الهوّة بينه وبين تلاميذه باتخاذه النقد إسلوبا للتعليم ، لأ، النقد كلمات تكشف الفشل والتردي ، والنفس بطبيعة الحال تعاف الصور التي تظهر الاندحار والألم ..
يقدم الدكتور ديفيد شوارتز النصيحة التالية : ( إستعمل كلمات المفكرين العظام – كلمات ضخمة ، براقة ، مرحة – كلمات توعد بالنصر والأمل والسعادة والسرور ،وتجنب الكلمات التي تحمل صور الفشل والاندحار والحزن ..).
إن ذكر الأمور المفرحة أفضل من تكرار المؤلمات من أجل ذمّها . فإننا – بذمها- نستعيد ذكرياتها ، ونجدد الشعور المؤلم بها ..
كذلك في مجال التربية الإجتماعية ، فإن المثل الصالح أوقع في النفس من ضرب الأمثلة السيئة ثم التحذير منها ، وكثير من الناس يبذلون الآلآف من الأموال في سبيل ذكرهم ذكرا طيبا ، والشركات الكبرى تبذل الأموال الطائلة من أجل أن تذكر بضاعتها بالخير في فترات عرض دور السينما والبث التلفزيوني وبين البرامج ..
فمجرد ذكر الامثلة السيئة خدمة مجانية للمساوئ ودعوة لا مباشرة إليها .. إذ إن تكرار الشئ تأكيد له ومدعاة لتذكره ، مهم كان ذلك الشئ ومهما كان القصد أو السبب .. وأن مناهج التعليم الحديثة تؤكد على التكرار في تثبيت العادات الطيبة ، بحيث تنطبع في ذاكرة المتعلم حتى تصبح جزءا منه يقوم يقوم بها دون وعي او شعور ، وتنهى عن تكرار الخطأ أو السيئة ، وإن كان ذلك التكرار في سبيل التوضيح وضرب الأمثال ... لأن العين آلة تصوير مفتوحة تصور كل ما يمر في مجالها ، صالحا كان أو طالحا ، والاذن مسجل مفتوح يسجل كل ذبذبة صوتية ، سواء اكانت صادرة من انكر الأصوات ، أو من سيمفونية راقية ، تؤخذ هذه الذبذبات وتلك الصور ، وتنقل على متن الأعصاب إلى المخازن المعينة لها في مراكز الجهاز العصبي ..
فالنقد ، إذا ، متى دخل من طريق الحواس احتل مجالا معينا في النفس ، إن قصد أو لم يقصد منه ذلك .. والنقد رفض من الجانبين : الناقد والمنقود .. فالمربي يرفض هذه السجية أو تلك ، ويحط من قيمتها وقيمة المتصفين بها – وفي ظاهر هذا توجيه وإصلاح – والمستمع ، والذي يقع عليه النقد يشعر بهذا الرفض .. فأول ما يتبادر إلى ذهنه إنه حرم من رضا الناس عنه لنقص فيه ، أو لعداء شخصي يضمره له المربي .. وما اكثر ما يقف المدرسون حائرين إزاء إدعاء الطالب أن مدرسيه يكرهونه .. وانهم أفشلوه في الإمتحان .
لذى نرى المربي – بعد كل هذا – قد أصبح شمعة تحترق فعلا .. تحرق اعصابها و كما تحرق المستضيئين بها وتلهب نفوسهم رفضا وحقدا وعنتا ، بدل أن تنير لهم السبيل فتضئ أسارير نفوسهم وتشع على دياجير الجهل والمزعجات ...
بقلم د. عباس مهدي